فصل: ميل القلوب ونفرتها

مساءً 9 :12
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحاضرات ***


الزاوية والرباط

ولما ظهرت الصوفية لم يعرف من حالهم وجود هذه الزاوية والقيام بكل وارد من الجنس وغير الجنس كما هو اليوم، بل كانوا -رضي الله عنهم- مَعنيّين بما يعنيهم، فمنهم المنقبض عن الناس شغلًا بحاله، ومنهم المخالط ينتفع الناس منه بعلومه ومعارفه وآدابه، وقد يكون منهم من يستقر بين أظهر الناس، ومنهم من يكون سائحًا إنما يلقى في الخلوات والفلوات، وقد يكون منهم من يكون أصحابه هم الذين يقومون بمثونته، أو يسأل قدر قوته، فكان أبو جعفر الحداد، وهو من أكابر المشايخ يخرج بين العشائين فيسأل من الديار حتى يحصل عل القدر المحتاج في ليلته، فيرجع، قالوا‏:‏ وكان له قدم في التوكل معروف، ولم يُزْرِ به ذلك عند أحد، نعم تكون لهم رباطات فيكون فيها المتجردون من أصحابهم للعبادة كشبه حال أهل الصُّفة وذكر اليافعي رحمه الله في ذلك حكاية عن الإمام ‏"‏أبي بكر‏"‏ الشبلي -رضي الله عنه- قال‏:‏ كان عنده في رباطه نحو أربعين مريدًا يعبدون ويعيشون بالفتوح، وأنه اتفق له ذات مرة أن يفتح عليهم بشيء، حتى ضاقوا، فخرج الشيخ إليهم فحدثهم في مقام التوكل، وحضهم على الصبر، ثم ذهب عنهم، فبقوا بعده أيامًا أُخر لم يأتهم شيء، فلحقتهم الضرورة،‎ فلما كان ذلك خرج إليهم فقال لهم‏:‏ إن الله تعالى أمرنا بالتوكل ورخص لنا الأسباب، فتسببوا، ففعلوا ذلك، وخرج الواحد منهم، البلد وجعل يجول في الأسواق والمجامع من غير أن يسأل أحدًا وإنما يعرض نفسه لما يفتح الله تعالى من رزق، فلم يفتح عليه بشيء حتى انتهى إلى طبيب نصراني قد حلق الناس عليه، وهو يصف لهم الأدوية، فجلس بين يديه، ومد إليه يده ليجس نبضه بلا كلام، فجس الطبيب يده فقال له‏:‏ أنا أعرف مرضك وأعرف دواءه، ثم قال لغلام له‏:‏ عليَّ برطل من الشواء، مع خبز وحلواء، فأحضر الغلام ذلك، فقال الطبيب للفقير‏:‏ أنت جائع، وهذا دواؤك، فقال الفقير‏:‏ إن كنت صادقًا فمن ورائي أربعون كلهم بهذا المرض، فقال الطبيب لأصحابه‏:‏ أحضروا من هذا الطعام ما يكفي أربعين، فأحضروا ذلك، فأمر الطبيب من يحمله، وأمر الفقير أن يمشي معهم إلى أصحابه، فلما خرجوا تبعهم الطبيب مستخفيًا ليعلم أصدق الفقير أم لا‏؟‏ فأدخلوا ذلك إلى الرباط واستدعوا الشيخ فخرج اليهم، فوضعوا الطعام بين يديه فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقص عليه الفقير القصة على وجهها فقال لهم‏:‏ أفترضون أن تأكلوا طعام رجل من غير أن تكافئوه‏؟‏ فقالوا‏:‏ فكيف نكافئه يا أستاذ‏؟‏ فقال‏:‏ تدعون له، فأخذوا في الدعاء له، والطبيب في كل ذلك ينظر إليهم من طاق، فلما رأى صدق القول، ورأى حالهم من المحافظة على الحقوق، وارتفاع هممهم مع غاية الحاجة من غير أن يتناولوا الطعام قبل المكافأة ألقى الله تعالى الأيمان في قلبه، فدخل عليهم وقال للشيخ‏:‏ مدَّ يدك، وتشهد شهادة الحق ودخل في صحبتهم فصار من الصوفية، ولله الحمد، فأنظر أيها الناظر في حكمة المولى المتفضل كيف أمسك عن أوليائه الرزق ليخرجوا إلى الخلق فيصطادوا هذا الولي الروميّ حين حان أوان الوصال والخروج من سجن القطيعة إلى حضرة مولاه، فسبحان من يقرب من يشاء، وهو ذو الفضل العظيم، وإنما هي السابقة «وكلّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَه» فكم من ولي لله تعالى في وسطه زنّار، وكم من كافر يؤذن فوق المنار، نسأل الله تعالى السلامة والعافية، ويظهر من القصة أن هؤلاء الفقراء يأتيهم الفتوح لرباطهم، لا أن ‏"‏الطعام‏"‏ يخرج لهم من دار الشيخ كما جرى في عرف اليوم، بل قد أشركوا الشيخ في طعامهم في هذه القصة‏.‏

وكان بعد ذلك الشيخ يوسف العجمي فيما حكى من سيرته يخرج الواحد من أصحابه ويذهب بدابة معه فيسأل النهار كله إلى الليل وما أجتمع يأتي به إلى الفقراء، وبذلك يعيشون، وصورة السؤال أن يقف بباب الدار والحانوت فيقول‏:‏ الله، ويمد بها صوته حتى يكاد يغشى عليه ويسقط، قالوا‏:‏ وكانوا يتناوبون في الخروج بينهم وبين الشيخ، يخرج الخارج يومًا لأنفسهم ويومًا للشيخ، فكان الخارج لهم يأتي بالدابة مُوقرة لحمًا وخبزًا وجبنًا وبصلًا وغير ذلك، وفي يوم الشيخ إنما يأتي بكسيرات يأكلها فقير واحد فقالوا له في ذلك فقال‏:‏ أنّتم بشريتكم باقية، فبينكم وبين الخلق ارتباط، فيعطونكم، وأنا بشريتي قد فنيت حتى لا تكاد ‏"‏ترى‏"‏ فليس بيني وبين التجار والسوقة وأبناء الدنيا كبير مجانسة ‏"‏قالوا‏"‏‏:‏ وكان يأمر بإغلاق باب الزاوية ‏"‏طول النهار‏"‏ لا يفتح لأحد إلاّ للصلاة وإذا دق أحد يقول للنقيب‏:‏ اذهب وانظر من شق الباب فإن كان معه شيء من الفتوح للفقراء فافتح له، وإلا فهي زيارات فشارات فقال بعض الناس في ذلك، فقال الشيخ‏:‏ أعز ما عند الفقير وقته، وأعز ما عند أبناء الدنيا مالهم، إن بذلوه لنا بذلنا لهم وقتنا‏.‏

وقد شاع اليوم إقامة الصوفية الزوايا بإطعام الطعام، ولا سيما في بلادنا المغربية، وخصوصًا في البوادي، وما يكون من فتوح يأتي إلى يد الشيخ، وهو ينفق فيه على المجاورين والواردين، وهذا قد كان فيهم من قديم، ففي ترجمة الشيخ أبي يعزى أن الناس ‏"‏كانوا‏"‏ يأتون إليه من كل بلد، فيطعمهم من عنده، ويعلف دوابهم، وأن الفتوح كانت تأتيه من إخوانه في الله تعالى فينفقها على زائريه وأن أهل القرى القريبة منه كانوا يضيفون الواصلين لزيارة أبي يعزى ويتبركون بهم، فلما مات أبو يعزى رِيءَ في النوم وهو يطير في الهواء فقيل له‏:‏ بم نلت ما نلت‏؟‏ فقال‏:‏ بإطعام الطعام‏.‏

ويحكى عن الشيخ أبي محمد عبد الخالق بن ياسين الدغوغي أنه كان يقول‏:‏ طلبنا التوفيق زمانًا فأخطأناه، فإذا هو في إطعام الطعام وقد اشتهر ذلك اليوم حتى إن عوام البادية يرون ذلك كأنه شرط انتصب للزيارة أو تصدّى للمشيخة، ويعدون قوة ذلك وتيسره من كراماته، ولا يبالون بمن لم يروا ذلك على يده، فوقع في ذلك منافع عظام وآفات جسام‏.‏

وأهل الزوايا مختلفون، منهم من يطعم الناس من مال أبيه أو من كد يمينه من غير أن يدخل عليه فتوح أصلًا، فهذا أقرب الناس إلى السلامة وأبعد عن الشبهة، وهو منتفع بحصول الأجر فيما أنفق، وفي سد خلة المحتاج، وفي ترغيب الناس في الخير بما يحصل لهم من الميل الطبيعي، وفي اجتماع أهل الخير عنده، وفي تعاونهم على البر، وتعلم العلم والأدب والمعرفة وتربية الخير، وإحياء مراسم الطريق، وتكثير سواد أهله، وغير ذلك من الوجوه المستحسنة، والمصالح المتبينة، وينتفع الناس معه بما ذكر وبحسن الظن به وبالطريق وبأهلها وبسلامتهم من كل ما يقابل ذلك من الآفات، إن كانت ‏"‏لا‏"‏ تأتيه الفتوح فذاك، وإن كانت تأتيه ويردها فلا شك أنها حالة رفيعة، ولكن لا بد أن يحذر آفة الرد كما يحذر آفة الأخذ، ولا سيما في الرد على إخوانه وأتباعه‏.‏

ومن الآفات المشاهدة اليوم في ذلك أن الشح عياذًا بالله قد غلب على الناس ولا سيما فيما هو لله خالصًا، إذ لا باعث عليه من النفس، فتجد الفقير يثقل عليه أن يتصدق بدرهم لمسكين محتاج ويتيم وأرملة، ويخف عليه أن يحمل الدينار والدينارين إلى دار شيخه، وذلك إما لبواعث شهوانية كطلب الأعواض العاجلة أو مساعفة الغير أو المراياة أو نحو ذلك، وإما تصريف من الله تعالى وتسخير في هذا الوجه، ثم إن رد عليه شيخه ذلك وأغلق عليه بابه انغلقت عليه أبواب الخير والنفقة، فبأي وجه يرتاض في صفة البخل حتى يتخلى منها‏؟‏ ‏"‏أو‏"‏ بمجرد الموعظة والتذكير من شيخه من غير أن ينازلها بالفعل‏؟‏ وهيهات منه ذلك‏!‏ وإذا كان كذلك كان شيخه قد غشه في تربيته له ولو أنه قبض منه ذلك وأنفقه له في وجوه الخير كان أعود عليه وأرجى لاعتياده ذلك في جهات أخرى، ولحصول نور ينتفع به، نَعَمِ الأمْرُ مُخْطِر، والناس فيه ثلاثة‏:‏ رجل طالب دنيا آكلٌ بدينه، يقبض لنفسه شهوة، فهذا فاسد مفسد، وربا أنتفع معه من أنفق لله تعالى «إنَّ اللهَ يُؤَيّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفّاجِرِ»‏.‏

ورجل صادق في حاله، غير كامل في تصرفه، يخشى العطب في الأخذ، ويؤثر جانب السلامة، فهذا سالم في نفسه، ولا ربح معه للناس من هذا الوجه‏.‏

ورجل كامل قد تضلع من العلم والحال، فهذا حقه الأخذ لحق الغير نصحًا له وإعانة له على الخير، اللهم إلاّ أن يعرض ما يمنع كاطلاعه على اختلاف قصد المتصدق أو فساد في المال أو نحو ذلك‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يقبل من أصحابه ما يأتون به من النفقة إعانة لهم على الخير، وتزكية لهم عن الأخلاق المذمومة، ونفعًا للمسلمين بما أنفقوا وإلا فهو صلى الله عليه وسلم أغنى الخلق ظاهرًا وباطنًا، وقد عرض عليه أن تجعل له الجبال ذهبًا يتفق منها فلم يرض، وقد لا يقبل لعوارض، وقد قال صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر‏:‏ «هَمَمْتُ ألاَّ أقْبَلَ إلاّ مِنْ قُرَشيّ أو ثَقَفيّ أوْ دَوْسيٍّ» والكامل من المشايخ له مدخل في ذلك‏.‏

ومنهم من يطعم من الفتوح أو من الأمرين، فإن استقام أخذه وتصرفه فهو ينتفع بما مر في الأول، وإن كان لا يبلغ في أجر النفقة مبلغ من أنفق في كد يمينه، وعرق جبينه، وبمعاونة الناس على الخير، وإدخال السرور عليهم في الأخذ، وتربية أحوالهم المحمودة، وتزكيتهم من المذمومة، وبالسلامة من الأنفة والاشتهار بالنزاهة المتوقع في الأول، وبتيسر رزقه في خلال ذلك ليتفرغ للعباده، إلى غير ذلك من المنافع الدينية والدنيوية، وينتفع الناس معه بما مر، والمنفقون بذلك مع حصول أجر ما أنفقوا، والتخلي والتحلي كما مرّ، وغير ذلك، ومن سوى هذين الشخصين من كل من يستظهر بالخرقة ويتجر باللقمة فلا عبرة له، وقد ينتقع المنفق كما مر إن سلم من أتباعه على زيغه والسقوط في مهاوي بدعته، وهذا كله في الإطعام والإنفاق جملة‏.‏

وأما أكل المريد لطعام شيخه والنزول في مثواه وافتراش فراشه وغير ذلك من الانتفاعات فقد يسلم في ذلك وقد يحصل له انتفاع زيادة على السلامة كحصول بركة ونور في قلبه أو رحمة من الله تعالى بذلك، وقد جاءت امرأة من لكتاوة إلى دار أشياخنا، وأظنه في حياة سيدي أحمد بن إبراهيم بقصد الزيارة فأكلت من طعام الزاوية ثم رجعت إلى بلدها وبقيت أيامًا فماتت فريئت بعد موتها فقيل له‏:‏ ما فعل الله بك‏؟‏ فقالت‏:‏ رحمني بالطعام الذي أكلت من الزاوية‏.‏

وقد يتضرر المريد بذلك من جهات منها أن يتشوف إلى ذلك أو إلى المَزية فيه فيفسد قصده، ويختل حاله، ومنها أن يستشعر شيخه منه أحيانًا ثقلًا في ذلك لما يقتضيه الطبع البشري، فينفر منه، وفي ذلك ضرره، وقد تذهب زيارته وخدمته في بطنه، وذلك هو الخسران المبين، ومن ذلك وقع ما ذكر في صدر هذه الترجمة للشيخ أحمد بن يوسف من ترك الإطعام كما قال، وقد يدخل عليه في ذلك من مزاحمة الإخوان والواردين الشغل والفتنة والشحناء والتدابر والتقاطع وغير ذلك‏.‏

وقد حدثونا عن شيخ شيوخنا سيدي عبد الله بن حسين الرقي -رضي الله عنه- أنه ‏"‏كان‏"‏ إذا ذهب مع الفقراء لزيارة شيخهم سيدي أحمد بن علي يأخذ معه زادًا تحت إبطه فإذا وصلوا إلى زاوية الشيخ انفرد عنهم ودخل المسجد واشتغل بحاله واقتات من زاده فلا جَرَمَ ‏"‏أن‏"‏ كان هو الذي أنجح وأفلح‏.‏

هذا ولا يخلو شيء من مصالح وآفات، والمعصوم من عصمة الله، والموفق من وفقه الله، والورع من ورعه الله، فلا يمكن الاعتراض على من أكل، ولا من ترك، ولا من أطعم، ولا من ترك، ولا من اشتهر، ولا من اختفى، اللهم إلاّ ‏"‏على‏"‏ من كان في تربيته على يده بوجهه، فمن عرف فليتبع، ومن جهل فليسلم، والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باقية في محلها بشرطها‏.‏

وبلغني أن الفقيه الصالح سيدي الصغير ابن المنيار مر ذات مرة بسيدي محمد بن أبي بكر الدلائي فأخرج إليه الطعام من الزاوية فلم يأكله فبلغ ذلك ابن أبي بكر فذكر ذلك وكأنه اعتل بما يقع من خدمة الناس في الحصاد والدرس، فقال له ابن أبي بكر‏:‏ أيما أفضل أنت أم جدك‏؟‏ يعني سيدي علي بن إبراهيم، وقد جاءه بنو موسى بسبعمائة منجل ليحصدوا، فلما رأى عددهم قال لهم‏:‏ بخلتمونا يا بني موسى، فقال له سيدي الصغير‏:‏ جدي أعرف بحاله وأقدر على ما يفعل، وأنا أتصرف بمقتضى حالي أو نحو هذا ‏"‏من‏"‏ الكلام‏.‏

وقد يكون للولي حال مع الله تعالى فيسأل الناس ويأخذ من الله تعالى لا من الناس، ويتصرف بالله وفي الله، ولا يصح الاعتراض عليه لاستقامته‏.‏

وقد قيل للإمام الجنيد‏:‏ إن النوري يسأل الناس فقال‏:‏ دعوه في حاله، ولكن هاتوا الميزان فوزن قدرًا من الدراهم، ثم أخذ قبضة من الدراهم بغير وزن فقذفها على الموزون وقال لصاحبه‏:‏ اذهب بتلك المجموع ‏"‏إليه‏"‏ فلما باغ النوري قال‏:‏ ‏"‏النوري‏"‏‏:‏ ‏"‏هات‏"‏ الميزان، فوزن القدر الموزون ورده وأخذ الباقي، فقال له الحامل‏:‏ كنت عجبت من فعل الجنيد وأنه كيف خلط الموزون، فأي فائدة للوزن‏؟‏ وفعلك هذا أعجب، فما هذا‏؟‏ فقال له النوري‏:‏ إن الجنيد رجل حكيم، وإنه أحب أن يأخذ الحبل بطرفيه، فوزن قدرًا لنفسه وجعل الآخر لله تعالى، ونحن قد أخذنا ما لله تعالى، فلما رجع الرسول إلى الجنيد بكى وقال‏:‏ أخذ ماله ورد علينا مالنا، فتبين بذلك أنه يأخذ ما لله من الله عن بصيره صادقة فلا بأس ‏"‏عليه‏"‏ ‏"‏بذلك‏"‏ والله الموفق ‏"‏و‏"‏ المعين‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

ميل القلوب ونفرتها

كان بعض الطلبة من أصحابنا في قرية، وكانت القرية قرية سوء، وأهلها كذلك، ثم إن بعض الأصحاب رام لوم ذلك الطالب على الاستقرار فيها فقال له‏:‏ كيف تبقى في تلك القرية وهي كيت وكيت يعدد عليه مساويها‏؟‏ فقال الطالب‏:‏ أحمد الله وأشكره، فلما قال ذلك استحمقه اللائم وازداد في الإنكار عليه وأنه كيف يحمد على هذا، فقال له الطالب‏:‏ قد رأيت كلَّ ما ترون من مساويها، وعلمت منها ما تعلمون أو أكثر، ومع ذلك فأجد قلبي غير نفور عنها ‏"‏فأحمد الله تعالى إذ قضى عليَّ الاستقرار فيها ولم ينفر قلبي عنها‏"‏ فلو أنه تعالى قضى عليَّ وَكرهها لي وأنا لا أجد بدًا منها بحكم القضاء فما ترون يكون عيشي عند ذلك‏؟‏ فلما قرر هذا المعنى وجدوه معنى لطيفًا تنبه إليه وسلموا له‏.‏

وشرح ذلك باختصار أن الله تعالى أودع في طبع الآدمي ميلًا إلى شيء ونفورًا عن شيء، ويسمى الأول ملائمًا، إما حسيًا كالشراب والطعام واللباس والنكاح ‏"‏في الجملة ونحو ذلك‏"‏ وإما معنويًا ‏"‏كالعز‏"‏ والجاه والراحة والصحة والعافية ونحو ذلك، ويسمى الثاني منافرًا إما حسيًا أيضًا كالعَذِرة والبول والدم والميتة والشوك والجرح والضرب والسجن والقيد ونحو ذلك، وإما معنويًا كالذل والمهانة والعجز والضيم والغم والحزن ونحو ذلك‏.‏

ثم إن الأعيان الموجودة في الدنيا كالأموال المكتسبة وغيرها من الحيوانات العجماوات والجمادات مثل الأمكنة والأزمنة والجهات والقرناء والأصحاب ونحو ذلك منها ما يكون من القسم الأول ملائمًا لمقارنته للملائم كالأنعام لما فيها من الأكل والشرب والركوب والحمل والزينة، والرباع لما فيها من الاشتغال بأنواعه، والنساء في الجملة لما فيها من الاستمتاع، وسائر الانتفاع، وعلى الخصوص فيمن وجد ذلك فيه حقيقة أو توهمًا، وكذا في سائر ما ينفع له، ولذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏زُيِّنَ للنّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ‏}‏ الخ‏.‏ ومنها ما يكون من القسم الثاني منافرًا لمقارنته للمنافر كالسباع والحيات والعقارب والأعداء ونحو ذلك، وكذا الأمكنة والأزمنة والجهات تكون ملائمة إذا كانت ظرفًا للملائم، ومنافرة إذا صارت ظرفًا للمنافر، وهذا هو الأمر المعتاد، وقد تخرق هذه العادة في شخص فيجعل في قلبه ميل إلى غير ملائم أو نفرة عن غير المنافر إما بسبب كالسحر ونحوه، أو بمحض الحكم الأزلي، ولا بد أن يتوهمه في نفسه ملائمًا في تلك الحالة أو منافرًا، فلا تنتقض العادة الجارية، ثم إن الله تعالى قدر على العبد قبل إيجاده ‏"‏كل‏"‏ ما يلقاه من هذه الأشياء، فإن قدر عليه أن يلقى الملائم فعندما يلقاه ينعم من جهتين‏:‏ إحداهما وجود الانتفاع الذي فيه كما قررنا، والأخرى أنس قلبه به فيكون كما قال عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-‏:‏ إذا وافق الحق الهوى فهو العسل والزبد، وإن قدر عليه أن يلقى المنافر فهو عندما يلقاه يعذب من جهتين، وهما التضرر الظاهر، والتألم الباطن بالكراهة، وهذان القسمان في الملائم والمنافر الحقيقيين، وهما واضحان جالسان على المعتاد، ووراءهما أربعة أقسام فيما يرجع إلى القلب من الميل والنفرة‏:‏ الأول أن يقضى عليه بعدم ملاقاة اللائم ولا يخلق في قلبه ميل إليه كحال المجانين أو يخلق له كراهيته‏.‏

الثاني أن يقضى عليه بملاقاة المنافر ولا تخلق في قلبه نفرة عنه أو يخلق له الميل إلى الميل إليه، وفي كلا القسمين تقع السلامة من العذاب وإن لم يحصل نعيم أو يحصل نعيم موهوم أو خسيس تابع لخسة عقل صاحبه أو ضعف حسه كالصبي الذي يأكل التراب، ومن القسم الثاني قصة صاحب القرية المذكور‏.‏

الثالث أن يبتلى بالميل إلى شيء ومحبته بحكم القضاء ملائمًا أو غير ملائم ولا يقضى له بملاقاته‏.‏

الرابع‏:‏ أن يبتلى بالنفرة عن شيء وكراهته بحكم القضاء أو غير منافر ويقضى عليه بملاقاته، وفي كلا القسمين يقع العذاب والمحنة بالنظر إلى الباطن، وإلى الأول يشير المجنون في قوله‏:‏

قضى لغيري وابتلاني بحبها *** فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا

وكأنه يقول‏:‏ لو قضاها لي أي الرب سبحانه بأن أتزوجها حين ابتلاني بحبها لنعمت ولو لم يبتلني بحبها حين قضاها لغيري أن يتزوجها لاسترحت فلا أنا بحصولها في يدي ولا أنا بخروجها من قلبي فهذا هو العذاب المبين، وإلى القسمين معًا يشير ‏"‏الآخر في قوله‏"‏‏:‏

من لم يعش بين أقوام يسر بهم *** فعيشه أبدًا همٌّ وأحزان

وأخبث العيش ما للنفس فيه أذى *** خُضْرُ الجنان مع الأعداء نيران

وأطيب العيش ما للنفس فيه هوى *** سَمّ الخياط مع الأحباب ميدان

وحاصله تحكيم القلب وأنه المرجع في النعيم والعذاب، ولا عبرة بالمحسوس إلاّ بما فيه من التأدية إلى ما في القلب، وإلى هذا المعنى يشير الصوفية في النعيم والعذاب الموعود في الدار الآخرة كما قال في الحكم‏:‏ النعيم وإن تنوعت مظاهره‏.‏‏.‏‏.‏ إنما هو لشهوده واقترابه، والعذاب وإن تنوعت مظاهره‏.‏‏.‏‏.‏ إنما بوجود حجابه‏.‏ فسبب العذاب وجود الحجاب‏.‏ وإتمام النعيم بالنظر إلى وجهه الكريم‏.‏

وإلى هذا المعنى يرجع كل ما يذكر من الحنين إلى الأوطان النائية، والبكاء على المراسم الخالية، وذكر الأحباب النازحة، والأيام الصالحة، ومن مرارة الفراق، ولوعة الاشتياق، وما قيل في ذلك يملأ الأرض، ويفوت الطول والعرض، كقول الأول‏:‏

وكل مصيبات الزمان رأيتها *** سوى فرقة الأحباب هينة الخطب

وكتب المهدي وهو بمكة إلى الخيزران‏:‏

نحن في أفضل السرور ولكن *** ليس إلاّ بكم يتم السرور

عيب ما نحن فيه يا أهل ودي *** أنكم غبتم ونحن حضور

فأجدوا المسير بل إن قدرتم *** أن تطيروا مع الرياح فطيروا

فأجابته‏:‏

قد أتانا الذي وصفت من الشوْ *** ق فكدنا وما فعلنا نطير

ليت أن الرياح كن يؤدي *** ن إليكم ما قد يجن الضمير

لم أزل صبة فإن كنت بعدي *** في سرور فدام ذاك السرور

وقال أبو تمام‏:‏

لو حار مرتاد المنية لم يجد *** إلاّ الفراق على النفوس دليلا

وقال أبو الطيب‏:‏

لولا مفارقة الأحباب ما وجدت *** لها المنايا إلى أرواحنا سبلا

‏"‏وقال أحمد بن رجاء الكاتب‏:‏ أخذ مني تميم بن المعز جارية كنت أحبها وتحبني فأحضرها ليلة في منادمته فنام فأخذت العود وغنت عليه صوتًا حزينًا من قلب قريح وهو‏:‏

لا كان يوم الفراق يوما *** لم يبق للمقلتين نوما

شتت مني ومنك شملا *** فساء قومًا وسر قوما

يا قوم من لي بوصل ريم *** يسومني في الغرام سوما

ما لامني الناس فيه إلاّ *** بكيت كيما أزاد لوما

فأفاق المعز مع فراغها ورأى دمعها يسيل فقال‏:‏ ما شأنك‏؟‏ فأمسكت هيبة له، فقال لها‏:‏ إن صدقتني لأبلغنك أملك، فأخبرته بما كنا عليه فأحسن إليها وردها إلي وألحقني بخاصة ندمائه، وقال ابن ميادة‏:‏

ألا ليت شعري هل يحلن أهلها *** وأهلك روضات ببطن اللوى خصرا

وهل تأتينّ الريح تدرج موهنا *** برياك تعروري بها بلدًا قفرا

بريح خزامي الريح بات معانقا *** فروع الأقاح تهضب الطل والقطرا

ألا ليتني ألقاك يا أم جحدر *** قريبًا فأما الصبر عنك فلا صبرا

وقال أبو العتاهية‏:‏

أمسى ببغداد ظبي لست أذكره *** إلاّ بكيت إذا ما ذكره خطرا

إن المح إذا شطت منازله *** عن الحبيب بكى أو حن أو ذكرا

وقال آخر‏:‏

أقول لصاحبي والعيس تخدي بنا بين المُنيفة فالضِّمَار

تمتع من شميم عرّار نجد *** فما بعدَ العشية من عرّار

ألا يا حبذا نفحات نجد *** وريا روضه بعد القِطار

وأهلك إذ يَحلى الحيّ نَجْدًا *** وأنت على زمانك غير

شهور ينقضين وما شعرنا *** بأنصاف لهنّ ولا

وقال الآخر‏:‏

سقى الله أيامًا لنا قد تتابعت *** وسقيًا لعصر العامرية من عصر

ليالي أعطيت البِطالة مِقْوَدي *** تمر الليالي والشهور لا أدري

وللإمام سليمان الكلاعي -رضي الله عنه-‏:‏

أحن إلى نجد ومن حل في نجد *** وماذا الذي يغني حنينيَ أو يجدي

وقد أوطنوها وادعين وخلفوا *** محبهم رهن الصبابة والوجد

وضاقت عليّ الأرض حتى كأنها *** وشاح بخصْرٍ أو سِوار على زَند

إلى الله أشكو ما ألاقي من الجوى *** وبعض الذي لاقيته من جوى يُردي

فراق أخلاء وصد أحبةٍ *** كأن صروف الدهر كانت على وعد

ليالي نجني الأنس من شجر المنى *** ونقطف زهر الوصل من شجر الصد

وقال الآخر‏:‏

إذا أشرف المكروب من رأس تلعة *** على شعب بوان أفاق من الكرب

وألهاه بطن كالحرير لطافةً *** ومطرّد يجري من البارد العذب

فيا لله يا ريح الجنوب تحملي *** إلى شعب بوان سلام فتى صب‏"‏

ولا ينحصر هذا الفن والاشتغال به يطيل‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

حنين المؤلف إلى الزاوية الدلائية

وكنت لما نزلت بخلفون على أم ربيع ذكرت من كان معنا في الزاوية الدلائية من المعارف والأحباب، وكانوا يومئذ قد شرقوا لناحية تلمسان فقلت‏:‏

سلام على الأحباب غير مضيع *** لذي شرف ذكرًا ولا لوضيع

سلام محب لا يزال أخا هوى *** إلى جلة قد شرقوا ونزوع

ومن يسأل الركبان عني فإنني *** حللت ببيتي حول أم ربيع

فألفيته يحكي زفيري زفيرة *** بقلب كقلبي بالفراق صديع

ويسعدني في عبرتي غير أنه *** يخالفني في مهبط وطلوع

فتجري إلى مَهْفى الجنوب دموعه *** وتجري إلى مَهْفى الشمال دموعي

ولما كنت بمدينة مراكش -حرسها الله تعالى- ‏"‏سنة ثلاث وتسعين وألف‏"‏ وقد بقيت الأملاك في خلفون والكتب وما معها في مكناسة وبقيت العلائق في جبال فازاز والقبيلة في ملوية ‏"‏قلت‏"‏‏:‏

تشتت قلبي في البلاد فقسمة *** بمراكش منه على رجل طائر

وأخرى بخلفون وأخرى مقيمة *** بمكناسة الزيتون حول الدفاتر

وأخرى بفازاز وأخرى تجزأت *** بملوية الأنهار بين العشائر

وأخرى بذاك الغرب بين أحبتي *** بأهل البوادي منهم والحواضر

فيا رب فاجمعها فإنك قادر *** عليها وما غير الإله بقادر

ويا رب فأجعلها بأوطانها فما *** عُبَيدك للبنين المشت بصابر

لك الفضل والإحسان بدءًا وآخرًا *** وإني لما أوليتني جِدُّ شاكر

فمُنَّ بإنعام وجُد لي بحاجتي *** ورفق بقلب للهموم مسامر

فمالي إلاّ بابك الرحب ملجأ *** وما طلب الحاجات منك بضائر

ومالي إلاّ جودك الجمّ شافع *** وحسبي بفيض منه أغزر وافر

وصفوتك المبعوث للناس رحمة *** بشيرًا شفيعًا مظهرًا بالبشائر

صلاة وتسليم عليه مدى المدى *** وعترته والصّحب أهل البصائر

وجرى يومًا ذكر البيتين اللذين أنشدهما سيدنا بلال -رضي الله عنه- وهما قوله‏:‏

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يومًا مياه مَجَنّةٍ *** وهل يبدون لي شامة وطفيل

فهاج لي إلى الأوطان اشتياق، فقلت نحو هذا المساق‏:‏

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بسهب الشنين أو بسهب بني ورا

وهل تعبرن نهر العبيد ركائبي *** وهل تتركن دايًا وأدواءَها ورا

وهل أردن عسلوج يومًا فأشربن *** مياهًا به يحكي رحيقًا وكوثرا

وهل تمرحن حيلي بذروة آمنا *** وبُطنانها من قبل أن يحفر الثرى

وهل أكحلن يومًا جفوني بنظرة *** إلى الأرزات الفارعات فتبصرا

وهل أدفعن جيش الهموم ببسطة *** مع الحي في تلك الديار فتقصرا

ونهر العبيد ‏"‏هو‏"‏ وادي العبيد المعروف، ومدينة داي هي المعروفة اليوم بالصومعة في تادلا، وإنما قال أدواؤها أي أمراضها لأنها كثيرة الأمراض والوخم‏.‏

ومن غريب ما اتفق لي في هذا البلد أنني مررت به حين سافرت إلى ناحية مراكش في طلب العلم فأصابتني الحمى منه، وذلك أول حمى أصابتني في عمري ثم بقيت في تلك النواحي عدة سنين فلما رجعت ومررت به أصابتني أيضًا، وكأنها كانت تنتظرني، ولذا كان من جملة التمني أن أترك هذه البلدة وأمراضها ورائي بالمجاوزة إلى وطني‏.‏

وكنا ذات مرة في بساتين خارج الحضرة المراكشية، ثم سرينا ليلة لقصد زيارة بعض الصالحين وركبت فرسًا، فما استويت ‏"‏عنه‏"‏ وبرد الليل وكنت أستحب السري فانبسطت نفسي وتمنيت أن لو كنت على أعتق من ذلك الفرس، وذكرت الأوطان فقلت ارتجالًا أو شبه ارتجال‏:‏

يا سرية لو كنت أسريها على *** نهد أغر محجل يعبوب

ينسابُ من تحتي كأن ذميله *** جريان ماء في الصفا مصبوب

ما بين خلاد فخوخات إلى *** نهر الرمال فمقطع فجبوب

فإذا فصلت من السلام عليكمُ *** وهفت صبًا في الجو ذات هبوب

فهناك تنشقني الحجاز وشيحه *** وتتم عرفًا من شذا محبوب

صلى الإله عليه ما وكف الحيا *** في الروض من وبل ومن شؤبوب

وعلى الأماجد آله وصحابه *** ما حنّ محبوب إلى محبوب

يا رب أنت رجاؤنا في نيْل ما *** نرجو فكن لعبيدك المربوب

لا رب نرجوه سواك أممكن *** وجدان آلهة لنا وربوب‏؟‏

فامنن عليها واسقنا إنا لفي *** ظمأ على شحط النوى وذبوب

واجمع بصفوتك الأجلة شملنا *** مع اخوة ومعارف وحبوب

واختم لنا معهم بدين قيم *** يتعلق وتشوّق مشبوب

فالدين والخرات أعود مقتنى *** أبدًا لكل مشمر ملبوب

وجرى ‏"‏يومًا‏"‏ ذكر قصيدة ابن الخطيب التي أولها‏:‏

سلا هل لديها من مخبرة خبر *** وهل أعشب الوادي ونم به الزهر

فسما أيضًا شوق وحزن، وعاود الفؤاد ذكر الوطن والسكن فقلت‏:‏

شم برقها أعلى أجارع ذي أضا *** وكفّت فأترعت الجداول والأضا

واحجب عليَّ وميضه فلقد حشا *** وسط الحشا جمر الغضا لما أضا

فكأنه مذ لاح في تلك الربا *** ما بين أحشائي حُسام مُنْتَضى

ما زال يذكرني معاهد جيرتي *** وعشيرتي ومعارفي مذ أومضا

‏"‏هذا على أن لست قط بمغفل *** لعهودهم ما حان منها أو مضى‏"‏

أم ساقها لجيوب ذروة سحرة *** فسقى بها قيصومها والعرمضا

وأدار فوق نجودها كاس الحيا *** وهْنًا فأصبح كل نشز مبرِضا

‏"‏خلعت أكف السحب أردية الكلا *** ومطارف الزهر النضير على الفضا‏"‏

وأفاضت الغدران حتى عاقرت *** أيدي الروابي الشم جريال الفضا

ما شئت من روض تراه مُذهبا *** فيها ومن روض تراه مفضّضا

بلد صحبت العيش فيه أخضرا *** نضرًا ووجهَ الدهر أبيضا

درت علي به الأماني حُفّلًا *** وهمَتْ عليَّ غيوث بر فُيَّضا

ولبست فضفاض النباهة سابغا *** وركبت صهوة كل فضل رَيّضا

وأسمتُ سرحي في المطايب مُمْرِعا *** ورميت صيدي في المآرب معرضا

في فتيةٍ قد كان شربي فيهم *** صفو الودادِ وكل خلْقٍ مرتضى

تَخِذوا المروءة والسماحة والندا *** والبر والإكرام دينا مقتضى

وتألفوا كالماء والصهباء في *** كأس وكلٌّ ذو سجايا ترتضى

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

الاعتزال عن الخلق طلبًا للسلامة

حدثني الأخ الفاضل أبو عبد الله محمد بن مسعود العيسوي العرفاوي قال‏:‏ سافرت إلى بلاد القبلة ذات مرة فمررت بالمرابط الخير أبي عبد الله محمد بن أبي بكر العياشي فدخلت لأزوره فلما قعد مني قريبًا ثم أنشدني ‏"‏متمثلًا‏"‏ قول الشاعر‏:‏

جفوت أناسًا كنت آلف وصلهم *** وما بالجفا عند الضرورة من باس

فلا تعذلوني في الجفاء فإنني *** وجدت جميع الشر في خلطة الناس

والمراد من الشعر ومن التمثل به الاعتزال عن الخلق طلبًا للسلامة لا ما يفهم من لفظ الجفاء، وفي الحديث‏:‏ «خَيْرُ النّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ أخَذَ بعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبِيلِ اللهِ يُخِيفُ العَدُوَّ وَيُخِيفُونَهُ وَفي رِوَايَةٍ‏:‏ حَتّى يَمُوتَ أوْ يُقْتَلَ»‏.‏ والذي يليه رجل معتزل في شِعْبٍ من الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس‏.‏

وعن أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- قال‏:‏ الطمع فقر، واليأس غنى، والعزلة راحة من جليس السوء، وفريق الصدق خير من الوحدة‏.‏

وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-‏:‏ كان الناس ورقًا لا شوك فيه، وهم اليوم شوك لا ورق فيه‏.‏

وقال بعض الأئمة‏:‏ العزلة عن الناس توفي العرض، وتبقي الجلالة، وترفع مئونة المكافأة في الحقوق اللازمة، وتستمر الفاقة‏.‏

وقد أولع الشعراء قديمًا وحديثًا من هذا المعنى بالتبرم بالناس والاستيحاش من الخلق وذم الزمان وأهله، فمن ذلك قول أبي العتاهية‏:‏

بَرِمْتُ بالناس وأخلاقهم *** فصرت أستأنس بالوحدة

ما أكثر الناس لعمري وما *** أقلهم في حاصل العِدّه

ونحوه قول الآخر‏:‏

ما أكثر الناس بل ما أقلهم *** والله يعلم أني لم أقل فَنَدا

إني أفتح عيني حين أفتحها *** على كثير ولكن لا أرى أحدا

وقول الآخر‏:‏

مخالط الناس في الدنيا على خطر *** وفي بلاء وصفو شِيبَ بالكدر

كراكب البحر إن تسلم حُشاشته *** فليس يسلم من خوف ومن حذر

وقول الآخر‏:‏

قد لزمت السكون من غير عيّ *** ألزمت الفراش من غير عله

وهجرت الإخوان لما أتاني *** عنهم كل خصلة مضمحله

وقول الآخر‏:‏

إن بني دهرنا أفاع *** ليس آمن ساوَرَتْ طبيبُ

فلا يكن فيك بعد هذا *** لواحد منهم نصيب

وقول الآخر ويعزى للإمام الشافعي -رضي الله عنه-‏:‏

ليت السباع لنا كانت مجاورة *** وليتنا لا نرى مما نرى أحدا

إن السباع لتهدا في مرابضها *** والناس ليس بهادٍ شرهم أبدا

فاهرب بنفسك وأستأنس بوحدتها *** تعش سليمًا إذا ما كنت منفردا

وقول طرفة بن العبد‏:‏

كل خليل كنت خاللته *** لا ترك الله له واضحه

كلهمُ أروع من ثعلب *** ما أشبه الليلة بالبارحه

وقول امرئ القيس‏:‏

كذلك جدي ما أصاحب صاحبًا *** من الناس إلاّ خانني وتغيرا

وقول الآخر‏:‏

وزهدني في الناس معرفتي بهم *** وطول اختباري صاحبًا بعد صاحب

فلم تُرِني الأيام خلا تسرني *** مباديه إلاّ خانني في العواقب

ولا قلت أرجوه لدفع مُلِمّةٍ *** من الدهر إلاّ كان إحدى المصائب

‏"‏وقال أبو فراس‏:‏

بمن يثق الإنسان فيما ينويه *** ومن أين للحر الكريم صِحاب

وقد صار هذا الناس إلا أقلهم *** ذئابًا على أجسادهنّ ثياب

وقال محمد بن تميم‏:‏

لك الخير كم صاحبت في الناس صاحبًا *** فما نالني منه سوى الهم والعنا

وجربت أبناء الزمان فلم أجد *** فتى منهم عند المضيق ولا أنا

وقول الآخر‏:‏

دَع الإخوان إنْ لم تلق منهم *** صفاء واستعِنْ واستغْنِ باللهْ

أليس المرء من ماء وطِين *** وأي صفا لهاتيك الحبِلَّه

ومثله‏:‏

ومن يكُ أصلهُ ماء وطينًا *** بعيد من جِبِلَّتِه الصفاء

ونحوه‏:‏

لا تثق من آدميّ *** في وداد بصفاء

كيف ترجو منه صفْوًا *** وهو من طين وماء

وقال أبو العلاء‏:‏

جربت أهلي وأصحابي فما تركت *** ليَ التجاربُ في ود امرئ غرضا

وقول أبي الطيب‏:‏

إذا ما الناس جربتهم لبيب *** فإني قد أكلتهم وذاقا

فلم أرَ وُدَّهم إلاّ خداعا *** ولم أرَ دينهم إلاّ نفاقا

وأنشد أيضًا‏:‏

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى *** عدوًا له ما من صداقته بد

قيل إنه لما تنبأ قيل له‏:‏ ما معجزتك‏؟‏ قال‏:‏ قولي‏.‏‏.‏‏.‏ وأنشد البيت‏:‏ وقول الآخر‏:‏

تصفحت أبناء الزمان فلم أجد *** سوى من غدا واللؤم حشو ثيابه

فجردت من سيف القناعة مُرْهَفًا *** قطعت رجائي منهم بذُبابه

فلا ذا يرني واقفًا في طريقه *** ولا ذا يراني واقفًا عند بابه

وقول الآخر‏:‏

أردت من الدنيا صديقا مؤاتيًا *** وفيًا بما أرضاه يرضى وينشرح

فإذ لم أجد أغضيت عن كل كائن *** وقلت لقلبي قد خلا الكون فاسترح

وقال غيره‏:‏

ألام على التفرد كل حين *** ولي فيما إلامُ عليهِ عذر

وكل أذى فمصبور عليه *** وليس على قرين السوء صبر

وقال محمد بن تميم‏:‏

من كان يرغب في حياة فؤاده *** وصفائه فلينأَ عن هذا الورى

فالماء يصفو إن نأى فإذا دنا *** منهم تغير لونه وتكدرا

وقول الآخر‏:‏

كن من الناس جانبا *** وارض بالله صاحبا

قَلِّبِ الناس كيف شئ *** ت تجدهم عقاربا

وأما أبو العلاء المعري فقد سلى نفسه عن عماه بقوله‏:‏

قالوا العمى منظر قبيح *** قلت بفقدانكم يهون

والله ما في الوجود شيء *** تأسى على فقده العيون‏"‏

وقال غيره‏:‏

الناس داء دفين لا دواء له *** تحير العقل فيهم فهو منذهل

إن كنت منبسطًا رأوك مسخرة *** أو كنت منقبضًا قالوا به ثقل

وإن تخالطهم قالوا به طمع *** وإن تجانبهم قالوا به ملل

وإن تعففت عن أبوابهم كرما *** قالوا غني وأن تسألهم بخلوا

ونحوه قول الآخر‏:‏

لا تُعِدَّنَّ للزِمان صديقا *** وأعِدّ الزمان للأصدقاء

وقول الآخر‏:‏

ورب أخٍ ناديته لملمة *** فألفيته منها أجلّ وأعظما

وقول الآخر‏:‏

وإخوان اتخذتهم دروعا *** فكانوها ولكن للأعادي

وخلتهم سهاما صائباتٍ *** فكانوها ولكن في فؤادي

وقالوا قد صفت منا قلوب *** لقد صدقوا ولكن من ودادي

وقالوا قد سعينا كل سعي *** لقد صدقوا ولكن في فسادي

وقال الآخر‏:‏

لقاء الناس ليس يفيد شيئًا *** سوى الهذيان من قيل وقال

فأقلل من لقاء الناس إلاّ *** لأخذ العلم أو إصلاح حال

وقول الآخر‏:‏

لا تعرفنْ أحدًا فلست بواجد *** أحدًا أضر عليك ممن تعرف

وقول الآخر‏:‏

وما زلت مذ لاح المشيب بمفرقي *** أفتش عن هذا الورى وأكشف

فما إن عرفت الناس إلاّ ذممتهم *** جزى الله بالخيرات من لست أعرف

ومثله قول الآخر‏:‏

جزى الله بالخيرات من ليس بيننا *** ولا بينه ود ولا متعرف

فما نالني ضيم ولا مسّني أذى *** من الناس إلاّ من فتى كنت أعرف

ويقال‏:‏ كتب رجل من أهل الري على بابه جزى الله خيرًا من لا يعرفنا ولا نعرفه ولا جزى الله أصدقاءنا خيرًا فإنا لم نُؤتَ إلاّ منهم‏.‏

وينسب للإمام الغزالي -رضي الله عنه- أيام سياحته‏:‏

قد كنت عبدا‎ً والهوى مالكي *** فصرت حرًا والهوى خادمي

وصرت بالوحدة مستأنسا *** من شر أصناف بني آدم

ما في اختلاط الناس خير ولا *** ذو الجهل في الأشياء كالعالم

يا لائمي في تركهم جاهلًا *** عذري منقوش على خاتمي

قالوا وكان نقش خاتمه‏:‏ ‏{‏وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين‏}‏‏.‏

وقول الآخر‏:‏

من أحسن الظن بأعدائه *** تجرع الهمّ بلا

قال بعضهم‏:‏ لو كنت ناظما لهذا البيت لقلت‏:‏ من أحسن الظن بأحبابه ولا أقول بأعدائه‏.‏

واعلم ‏"‏أن تبرم‏"‏ الناس بالناس واستيحاش بعضهم من بعض واستنقاص البعض للبعض هو أن الإنسان لما فيه من سبعية مؤذ بالطبع من يلقاه إما بيده أو بلسانه شتمًا أو نميمة أو غيبة، وكل من يتأذى منه يستوحش منه ويستنقصه، ولما فيه من الشهوة يتقاضى حظوظه ويضايق عليها غيره لاتساع الشهوة وضيق الدنيا فيثور البغض والحسد وسائر الشر، ثم قد يطمع أن يستحصل حظوظه أو بعضها من الغير، والغير في شغل عنه بحظوظه فيستنقصه، ومن الأول ينشأ العجب بالغني واحتقار الفقير، ومن الثاني ينشأ عدم الوفاء بالوعد والعهد، وذلك أن الإنسان ليس له على التحقيق اختيار، أما باطنًا فلأنه في قبضة الله تعالى، وكيف يتأتى وفاء أو عقد أو حل للعبد دون سيده‏؟‏ وأما ظاهرًا فلأنه أسير شهوته وسمير نهمته، وقد قلت في وصف طباع الناس من قصيدة‏:‏

ألم ترَ أن الدهر حبلى أنيَّة *** ولادتها يومًا وإن لم تكن تدري

فمن منَحٍ تُسلي ومن محنِ تُسي *** نتائجها صغرى على المرء أو كبرى

ولا تأمنَنْ أبناءه إن تحببوا *** إليك فمن يُشبه أباه فقد برا

وكل بني دهر بأشباه دهرهم *** على ما قضى الله الحكيم وما أجرى

متى ما ارتجوا رَغباء منك تقربوا *** إليك وأبدو خالص الود والبرا

وأخفوا ذميمًا كان فيك وأظهروا *** جميلًا وقالوا ذو محاسن لا تمرى

فذلك أحرى أن يجلوا وينصتوا *** إليك رشادًا كان قولك أو ثبرا

وإن لم يرجّوا منك خيرًا رأيتهم *** جفاء وإعراضًا يولّونك الظَّهْرا

وينثون عنك المزريات وإن رأوا *** جميلًا أعاروه الغشاوة والوَقْرا

فلا تُصْغ سمعًا للذي ذم منهم *** ولا الذي أبدى الجميل وإن أطرى

فإن بني الدنيا عبيدُ هَواهُم *** على مركز الأهواء دَورتهم طُرّا

وإنَّ هواهم حيث ترتقب الغنى *** وليس هواهم حيث ترتقب الفقرا

إذا ما رأوا ذا الوفر لاذوا بذيله *** وإن لم ينالوا من سحائبه قطرا

وإنْ بصروا بالمملق اهتزءوا به *** ومدوا إليه طرفهم نظرًا شزرا

وقالوا بغيض إن نأي ومتى دنا *** يقولوا ثقيل مبرم أدبر الفقْيرا

فإن غاب لم يفقد، وإن علَّ لم يُعَدْ *** وإن مات لم يشهد وإن ضاف لم يقرا

وفي اللهِ للمَرْءِ اللبيب كفاية *** عن الناس والمحروم من حرم الأجرا

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

ذم المعاصرين ومدح المتقدمين

واعلم أن هذا الطبع مركوز في طينة الآدمي منذ كان غير مخصوص بأهل زمان، وإن كانت بعض الأزمنة يخصها الله بغير ما يكون في غيرها من خير أو شر ‏"‏لعارض‏"‏ غير أن الناس لما دهتهم هذه الداهية من تأذي بعضهم ببعض وعدم الظفر بالغرض من الغير جعل كل يستنقص أهل وقته لمشاهدة وعدم الجدوى فيهم ويمدح من مضى، أما من لم يدركه فلتوهمه أنه على خلاف من رأى وأما من أدركه فلانقطاع شره ووقوع الاستراحة منه مع بقاء بعض الجدوى في الوهم ونزوع النفس إلى الإلف المألوف فلا تسمع إلاّ فسد الزمان وذهب الناس، فمن ذلك قول بشار‏:‏

فسد الزمان وساد فيه المقرف *** وجرى مع الطرف الحمار الموكف

وقول الآخر‏:‏

ألا ذهب التكرّم والوفاء *** وباد رجاله وبقى الغُثاء

وأسلمني الزمان إلى أناس *** كأمثال الذئاب لهم عُواء

صديق كلما استغنيت عنهم *** وأعداء إذا نزل البلاء

أقول ولا ألام على مقالي *** على الإخوان كلهم العفاء

وقول الآخر‏:‏

ذهب الذين إذا رأوني مقبلًا *** هشوا وقالوا مرحبًا بالمقبل

وبقيت في خلْفٍ كأن حديثهم *** ولغ الكلاب تهارشت في منهل

وقول الآخر‏:‏

ذهب الذين أحبهم *** وبقيت فيمن لا أحبه

إذ لا يزال كريم قو *** مٍ فيهم كلب يسبه

وقال منصور الفقيه‏:‏

يا زمانًا ألبس الأح *** رار ذلًا ومهانهْ

لست عندي بزمان *** إنما أنت زمانَه

وقول الآخر‏:‏

مضى دهر السماح فلا سماح *** ولا يرجى لدى أحد فلاح

رأيت الناس قد مسخوا كلابا *** فليس لديهم إلاّ النباح

وأضحى الظرف عندهم قبيحًا *** ولا والله إنهم القباح

سلام أهل ابليد عليكم *** فإن البين أوشكه الرواح

نروح فنستريح اليوم منكم *** ومن أمثالكم قد يستراح

إذا ما الحر هان بأرض قوم *** فليس عليه في هرب جناح

وقول الآخر‏:‏

مضى الجود والإحسان واجتث أهله *** وأحمد نيران الندى والمكارم

وصرت إلى ضرب من الناس آخر *** يرون العلى والمجد جمع الدراهم

كأنهم كانوا جميعا تعاقدوا *** على اللؤم والإمسَاك في صلب آدم

‏"‏وللإمام الشافعي -رضي الله عنه-‏:‏

صديق ليس ينفع يوم باس *** قريب من عدو في القياس

وما يبقى الصديق بكل عصر *** ولا الإخوان إلاّ للتآسي

عمرت الدنيا متلمسًا بجهدي *** أخا ثقة فأكداني التماسي

تنكرت البلاد عليَّ حتى *** كأن أناسها ليسوا بناس

وقال غيره‏:‏

هذا زمان تجاهل وتسامح *** وتغافل عن أهله فسد الورى

فإذا سمعت فكن كأنك ما سمع *** ت وإن رأيت فكن كأنك ما ترى

واجهد بنفسك في التخلص منهم *** فعساك تنجو إن نجوت وما أرى

أو لا فكن في قعر بيتك لا ترى *** إن كنت ترغب في النجاة وبالحرى

وقال أيضًا‏:‏

عم الفساد جميع الناس ويحهم *** يا ليتَ شعريَ ماذا بعد ينتظر

إن وعدُوا أخلفوا أو حدثوا كذبوا *** أو عهدوا غدروا أو خاصموا فجروا

أو ائتمنتهم خانوا فكن رجلًا *** منهم على حذر قد ينفع الحذر

وقال غيره‏:‏

ما في زمانك هذا من تصاحبه *** ولا صديق إذ حان الزمان وفى

فعش فريدًا ولا تركن إلى أحد *** فقد نصحتك نصحًا بالغًا وكفى

وقال الأرجاني‏:‏

تطلعت في يومَيْ رخاء وشدة *** وناديت في الأحياء هل من مساعد

فلم أرَ فيما ساءني غير شامت *** ولم أرَ فيما سرني غير حاسد

وقال غيره‏:‏

خبرت بني الأيام طرًا فلم أجد *** صديقًا صَدُوقًا مسعدًا في النوائب

وأصفيتهم منّي الودادَ فقابلوا *** صفاء ودادي بالقَذى والشوائب

وما اخترت منهم صاحبًا وارتضيته *** وأحمدته في فعله والعواقب

وقال آخر‏:‏

نحن والله في زمان غشوم *** لو رأيناه في المنام فزعنا

أصبح الناس فيه من سوء حال *** حقّ من مات منهم أن يهنّا‏"‏

وقول الآخر‏:‏

أنعى إليك خلال الخير قاطبة *** لم يبقَ منهنّ إلاّ دارس العلم

أنعى إليك مواساة الصديق وما *** قد كان يرعى من الأخلاق والذمم

أين الوفاء الذي قد كان يعرفه *** قوم لقوم وأين الحفظ للحُرم

أين الجميل الذي قد كان يلبسه *** أهل الوفاء وأهل الفضل والكرم

أيسر وأنت صديق الناس كلهم *** ثمَّ ابلُ سرّهم في حالة العدم

فإن وجدت صديقا عند نائبة *** فلست من طرقات الحزم في أمم

لما أناخ عليَّ الدهر كلكله *** وخانني كل ذي ود وذي رحم

ناديت ما فعل الأحرار كلهم *** أهل الندى والهدى والبعد في الهمم

قالوا حدا بهم ريب الزمان فسل *** أجداثهم عنهم تخبرك عن رمم

وقول لبيد‏:‏

ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

وتمثلت به أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ثم قالت‏:‏ وكيف لو أدرك لبيد زماننا‏؟‏ فقال عروة‏:‏ كيف لو أدركت عائشة زماننا‏؟‏ ولما بلغ ابن عباس قول عائشة هذا قال‏:‏ رحم الله لبيدًا ورحم الله عائشة، لقد أصيب باليمن سهم في خزائن عاد كأطول ما يكون من رماحكم هذه مفَوَّق مَرِيش مكتوب عليه‏:‏ ‏"‏هذا‏"‏‏:‏

ألا هل إلى أبيات منقطع اللوى *** لوى الرمل من قبل الممات معاد

بلاد بها كنا وكنا منَ أهلها *** إذِ الناس ناس والبلاد بلاد

أي فهذا العاديّ ‏"‏في زمانه‏"‏ يستنقص زمانه ويشير إلى أن الناس الأفاضل قد مضوا وأن الأرض تغيرت فكيف حال زمان لبيد ومن بعده كزمان عائشة‏.‏

وقد تحصل من هذا ما قررنا في صدر الكلام ‏"‏من‏"‏ أن الدنيا لم تزل هكذا، والناس هم الناس مند خلقوا‏.‏ ‏"‏ولقد أحسن القائل‏:‏

قل لمن لا يرى المعاصر شيئًا *** ويرى للأوائل التقديما

إن هذا القديم كان جديدًا *** وسيبقى هذا الجديد قديما‏"‏

فالأكمل للإنسان التسليم بل الرضى بوقته فإنه بذلك يفوز بالأدب مع الله تعالى الحكيم العليم الذي هو رب الأولين والآخرين ويفوز بشكره وحمده وبراحة قلبه والسلامة من التشوف والتطلع وسلامة الصدر لأهل زمانه والقيام بحقوقهم واعتقاد الخير في أهله والانتفاع بهم ورؤية المحاسن الوقتية والتغافل عن المساوي وغير ذلك‏.‏

ولقد منح الله تعالى الصحابة الزمان الفاضل، فكانوا يذكرون ما مضى لهم في الأزمنة السالفة من صنوف الشر من عبادة الأوثان وارتكاب القبائح والجهد الجهيد فيحمدون الله تعالى ويشكرونه، وهكذا ينبغي للمؤمن أن ينظر إلى ما منحه الله تعالى من الخير في زمانه دينًا ودنيا وإلى ما أنجاه الله تعالى ‏"‏منه‏"‏ من الشرور الحالية والماضية فيحمد الله على ذلك‏.‏

وقد جرت على لساني في هذا المعنى أبيات فقلت ‏"‏مناقضًا لما تقدم من الأشعار‏"‏‏:‏

نحمد الله وقتُنا وقتُ خير *** بذَّ ما قبله من الأوقات

غير وقت النبي صلى عليه ال *** له والصحب والتُّلاة الهداة

ديننا سالم من البدع العُم *** ي وعشنا بطيّب الأقوات

لم تكن كالشرَاة نغشى المعاصي *** لتفوز بالخلد في الغُرُفات

ضيعوا الدين بالمروق ودنيا *** هم بوقع الظبّات في السبدات

لا ولا كالجبري والقدري النج *** س ولا سائر الجفاة الغواة

والذي قد نلقى من المُرّ في الدن *** يا عسى أن نرقى به درجات

وبنو الدهر هم بنو الدهر قِدْما *** هم نبات ينمو بإثر

والطباع الطباع لست ترى في *** ها نُبُوًّا ولا اختلاف

ومن اختصه الإله بخير *** فهو فيه من دارج أو آت

نعم لا بأس بذكر الماضي من صلحاء الإخوان، والحنين إلى الأوطان، وإن ذلك يعد من حسن العهد، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم دخلت عليه امرأة فأكرمها وقال‏:‏ «إنَهَا كَانَتْ تَأتينَا أيّامَ خَدِيجَة، وإنَّ حُسْنَ العَهْدِ مِنَ الإيمَانِ»‏.‏

وكانت عائشة رضي الله عنها تقول‏:‏ ما غِرْت على امرأة ما غِرت على خديجة، وذلك من كثرة ما كان يذكرها صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل لبعض الحكماء‏:‏ بمَ تعرف وفاء الرجل وذمام عهده دون تجربة واختبار‏؟‏ فقال بحنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وتلهفه على ما مضى من زمانه‏.‏

وعن الأصمعي قال‏:‏ إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل وذِمام عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه وكان سيدنا بلال -رضي الله عنه- ينشد‏:‏

ألا ليت شعري هل أبيتَنَّ ليلة *** بوادٍ وحولي إذْخِر وجليل

وهل أردنْ يومًا مياه مَجَنّةٍ *** وهل يبدون لي شامة وطَفيل

وقد تقدم شيء من هذا قبل‏.‏

وقال أبو العباس بن العريف - رضي الله عنه -‏:‏

ما زلت مذ سكنوا قلبي أصون لهم *** لحظي وسمعي ونطقي إذ هم أنسي

حلوا الفؤاد فما أندى ولو قطنوا *** صخرًا لجاد بماء منه منبجس

وفي الحشا نزلوا والوهم يجرحهم *** فكيف قروا على أذكى من القبس

لأنهضنّ إلى حشري بحبهم *** لا بارك الله فيمن خانهم فنسي

‏"‏وقال غيره‏:‏

جسمي معي غير أن الروح عندكم *** فالجسم في غربة والروح في وطن

فليعجب الناس مني أن لي بدنا *** لا روح فيه ولي روح بلا بدن

وقال آخر‏:‏

راحوا فباتت راحتي من راحتي *** صفر وأضحى حبهم لي راحا

فتحوا على قلبي الهموم وأغلقوا *** باب السرور وضيعوا المفتاحا

وقال غيره‏:‏

يا راحلًا وجميل الصبر يتبعه *** هل من سبيل إلى لقياك يتفق

ما أنصفتك جفوني وهي دامية *** ولا وفى لك قلبي وهو يحترق

وقال غيره‏:‏

ليكفكم ما فيكم من جوى ألقى *** فمهلًا بنا مهلًا ورفقًا بنا رفقا

وحرمة ودي لا سئمت هواكم *** ولا رمت لي منه فكاكًا ولا عتقا

سأزجر قلبًا رام في الحب سلوة *** وأهجره إن لم يمت فيكم عشقا

وقال غيره‏:‏

ما ناح في أعلى الغصون الهزار *** إلاّ تشوقت لتلك الديار

ولا سرى من نحوكم بارق *** إلاّ وأجريت الدموع الغزار

وا أسفي أين زمان الحمى‏؟‏ *** وأين هاتيك الليالي القصار‏؟‏

واحر قلبي فمتى نلتقي *** وتنطفي من داخل القلب نار

وأنظر الأحباب قد واصلوا *** ويأخذ الوصل من الهجر ثار

أقول للنفس ابشري باللقا *** قد واصل الحب وقر القرار‏"‏

وذكر في التشوف عن أبي شعيب السارية- رضي الله عنه- قال‏:‏ كان إذا وقف على قبر شيخه أبي علي المسطاسي يقول‏:‏ أي رجل دفن هاهنا‏!‏ ما رأيت مثله وأنشد‏:‏

أسفًا لأيام وإخوان مضوا *** ومنازل فارقتها مغلوبا

قلبت قلبي جمرة من بعدهم *** ولبست عيشي بعدهم مقلوبا

طالبت بعدهم الزمان بمثلهم *** فأجابني هيهات لا مطلوبًا

وحكي أيضًا عن أبي عمران الهسكوري الأسود أنه كان لا ترقأ له دمعة، فربما سئل عن كثرة بكائه فيقول‏:‏ إنما أبكي على فقد من أدركته من الإخوان في الله عز وجل‏.‏

ويحكى أيضًا عن أبي جعفر الأسود صاحب تاغزوت أنه كان يقول‏:‏ أدركت ببلاد تادلا ثلاثمائة وسبعين رجلًا صالحًا كلهم يزارون، وأنشد‏:‏

فآهًا من الربع الذي غير البلى *** وواهًا من القوم الذين تفرقوا

أصون تراب الأرض كانوا حلولها *** وأحذر من مري عليها وأفرق

ولم يبق عندي للهوى غير أنني *** إذا الركب مروا بي على الدار أشهق

تنبيه على حكم ما وقع من استنقاص الزمان واستنقاص أهله وسبهما يحسب النظر الشرعي أصلًا وفرعًا‏:‏ فأما الزمان ويقال أيضًا الدهر فجرت عادة الشعراء وغيرهم قديمًا وحديثًا بالتشكي منه والتبرم به ونسبة الإذاية والجور إليه‏.‏ وقد يكون فيهم من يعتقد ظاهر ذلك ‏"‏وهو مشرك، وقد يكون من لا يعتقد ذلك لكونه موحدًا‏"‏ بل إما غفلة وَجريًا على أسلوب من قبله من التعبير وإما مجازًا بطريق المقارنة لما يقع فيه من الأحداث والكوائن، والفاعل هو الله تعالى، فلا معنى حينئذ للتشكي منه ولا لسبه ولا استنقاصه فإن ذلك سوء أدب مع الله تعالى من جهتين‏:‏ إحداهما أنه هو المتصرف في الكل، ولذا ورد في الخبر‏:‏ «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» أي ما ترونه فالله تعالى هو فاعله‏.‏

ثانيهما أنه يجب على المؤمن اعتقاد كل ما برز في كل زمان من التصرفات فذلك هو الصالح في ذلك الوقت الجاري على الحكمة سواء لاءم الطباع أو لا، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو جاهل بالله تعالى جاهل بحكمته وقدرته، ولو ولي وال بلدة لم يتصرف فيها إلاّ بالحكمة والمصلحة إلاّ ما خرج عن علمه وطوقه، والله تبارك وتعالى حكيم، قاهر فوق عباده، غالب على أمره لا يتعالى عن قدرته مقدور، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة‏.‏

ثم الزمان بمعزل عن العيب والنقص، فإنما ذلك في الناس، وما يقع منهم أو يقع لهم فهم أحق بالانتقاص كما قيل‏:‏

يقول أناسٌ دهر سوء ليعذروا *** وهم عيبه عندي ولا عيب للدهر

وأما استنقاص أهل الزمان كما مرّ فلا شك أنه لا يحرم إذ لا يدخل في الغيبة المحرمة حيث لا يكون التعيين‏.‏

وقد استشعر محيي الدين ابن العربي في رسالة القدس ذلك حيث وقع في متصوفة زمانه فأجاب بنحو ذلك ونزع بما وقع لعائشة -رضي الله عنها- من ذم أهل زمانها كما مرّ وغيرها من أهل الدين، ولكن الأولى الإمساك عن ذلك لما قررنا قبلُ، ولأنه لا يكاد يحصل من ذلك طائل غير إتعاب المرء قلبه ولسانه وتعرضه لمثل ذلك‏.‏

ومن ظنّ ممن يعاني الحروب *** بأن لا يصاب فقد ظن عجزا

نعم ذكر ما يقع منهم من المناكر بالتنصيص بقصد الاحتراز مع الإنصاف كما فعل أبو العباس زروق في النصح الأنفع، وفي عمدة المريد نافع مفيد غير أنه صعب مفتقر إلى تحقيق في المدارك وتضلع في العلوم وتجربة تامة، فإن الأمور قليل منها ما يكون أمرًا حقيقيًا يذم من كل وجه أو يمدح، وأكثرها إضافي اعتباري يختلف باختلاف الأشخاص والمقاصد والأزمنة والأمكنة والأحوال فافهم‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

مداراة الناس صدقة

مما اتفق لي وينتظم في سلك الملح مع تضمن فائدة أني كنت خرجت من مدينة فاس -حرسها الله تعالى- أيا مالحصار، وأتينا على جبل بني زروال، ومعي جموع من الناس من طلبة وفقراء وتجار، فوافينا به رجلًا من أهل محبتنا، فكان ينصرف لي في أموري وفي أمور من معي من الناس يحسب تفقدهم وإنزالهم منازلهم‏.‏ وربما نتردد فيريد أن يكشف لي عن رأيه في ذلك فيدنو مني ويناجيني، وكان ساقط الأسنان، لا يكاد يفهم كلامه، وكان مع ذلك كلام أهل تلك البلاد منغلقًا عنا لا نكاد نفهمه، ثم يخفت بصوته لئلاّ يسمعه من حضر، فيتكلم ولا أكاد أسمع من كلامه حرفًا واحدًا، حتى إذا فرغ من حديثه رفع رأسه إلي وقال‏:‏ هكذا يكون الكلام مفصحًا بها، فكنت في هذا أباسط أصحابي فأقول لهم‏:‏ إن هذه الجملة الأخيرة من كلامه وقع فيها حكم بطريق القصر، وهو موقوف على أشياء قبله لم يحصل واحد منها، الأول سماع اللفظ فإنه مقدمة الفهم، الثاني معرفة الوضع فإنه شرط، الثالث فهم الألفاظ مفردة، الرابع فهم التركيب، الخامس فهم النسبة تصورًا، السادس فهم الحكم مطلقًا ‏"‏أي من غير قصر‏"‏ السابع فهمه مقصورًا، ثم إن الأخير أعني الحصر محتاج إلى دليل لأنه بسبيل المنع، ولم يحصل شيء من ذلك كله، وما توقف على ما لم يحصل فهو غير حاصل، ثم إني مع ذلك أستبشر عند حديثه، وربما أحرك رأسي موهمًا أني قد حصلته، وأني قد استصوبت رأيه، وذلك أنه لم يمكني في الوقت غير ذلك، فإني إن راجعته ليبين لم يبين إلاّ بخفية كما فعل أولًا، فلا يحصل طائل، وقد علمت أن ليس في عدم تبين مقاصده مهمٌّ يفوت، لأن كل ما ينحو إليه من الرأي ويتشوف إليه من المصلحة فعندي بحمد الله ما يكفي فيه، فكنت أساهله وأتركه بحاله رفقًا به وجبرًا لخاطره وتقللًا من الشغب وعندي على هذا النحو مذهب، وأرى كثيرًا من الناس يَنْبُون عنه، وللتنبيه عليه مع التلميح السابق سطرت هذه القصة، وذلك أني أتغافل عما لا حاجة إليه، ولا أتتبع ما فيه تكلف ولا تدعو الضرورة إليه وإن ذلك عندي هو أسلم وأبعد عما يخشى من ارتكاب الفضول أحيانًا، وتجاوز الحدّ أحيانًا، وإحراج الصدر أحيانًا واستثارة الشر أحيانًا وأقرب إلى مكارم الأخلاق، وأدخل في المداراة المطلوبة، وأبعد عن الملاحاة المذمومة‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «مُدَارَاةُ النّاسِ صَدَقَة» وفي حديث آخر‏:‏ «رَأسُ العَقْلِ بَعْدَ الإيمَانِ بِاللهِ التَوَدُّدُ إلى النّاسِ» وفي خبر آخر‏:‏ «التَوَدُّدُ إلى النّاسِ نِصْفُ العَقْلِ، وَحُسْنُ التَدْبِيرِ نِصْفُ المَعِيشَةِ، وَمَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ» وقال الشاعر‏:‏

ومن لا يغمض عينه عن صديقه *** وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب

ومن يتتبع جاهدًا كل عثرة *** يجدها ولا يسلم له الدَّهر صاحب

وقال الآخر‏:‏

أغمض عيني عن صديقي تغافلًا *** كأني لما يأتي من الأمر جاهل

وما بي جهل غير أن خليقتي *** تطيق احتمال الكرهِ فيما تحاول

ونحوه قول الآخر‏:‏

أغمض للصديق عن المساوي *** مخافة أن أعيش بلا صديق

وقال غيره‏:‏

إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا *** صديقك لا تلقى الذي لا تعاتبه

فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه *** مقارف ذنب مرة ومجتنبه

إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى *** ظمِئت وأي الناس تصفو مشاربه‏؟‏

ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها‏؟‏ *** كفى المرء نبلًا أن تُعَدَّ معايبه

وقال غيره‏:‏

إذا ما الصديق أسا مرة *** وقد كان فيما مضى مجلا

ذكرت المقدم من فعله *** فلم ينسني الآخر الأولا

وقال غيره‏:‏

وأغفر عوراء الكريمِ ادِّخاره *** وأعرض عن شتم اللئيمِ تكرّما

وقال غيره‏:‏

احرص على حفظ القلوب من الأذى *** فرجوعها بعد التنافر يعسر

إنَّ القلوب إذا تنافرت وُدّها *** مثل الزجاجة كسرها لا يجبر ‏"‏

وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- خلال المكارم عشر تكون في الرجل ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيده، يقسمها الله لمن أحب‏:‏ صدق الحديث، ومداراة الناس، وصلة الرحم، وحفظ الأمانة، والتذمم للجار، وإعطاء السائل، والمكافأة بالصنائع، وقرى الضيف، والوفاء بالعهد، ورأسهن كلهن الحياء‏.‏

وقال الشاعر‏:‏

***

أحب مكارم الأخلاق جهدي *** وأكره أن أعيب وأن أعابا

وأصفح عن سباب الناس حلمًا *** وشر الناس من يهوى السِّبابا

ومن هاب الرجال تهيبوه *** ومن حقر الرجال فلن يهابا

وقال غيره‏:‏

ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فأجوز ثم أقول‏:‏ لا يعنيني

وقال غيره‏:‏

إن المكارم أخلاق مطهرة *** فالعقل أولها والدين ثانيها

والعلم ثالثها والحلم رابِعها *** والجود خامسها والعرف ساديها

والبر سابعها والصبر ثامنها *** والشكر تاسعها واللين عاشيها

والنفس تعلم أني لا أصدقها *** ولست أرشد إلاّ حين أعصيها

والعين تعلم في عيني محدثها *** من كان من حزبها أو من أعاديها

وقال غيره‏:‏

اترك مكاشفة الصديق إذا *** غطى على هفواته ستر‏"‏

وفي الحكمة‏:‏ اللبيب العاقل، هو الفطن المتغافل، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَرَّفَ بَعْضَه وَأعْرَضَ بَعْضَه وَأعْرَضَ عَنْ بَعْضِ‏}‏ مشرب في هذا المعنى، ويقال‏:‏ ما استقضى كريم قط، وفي الحديث‏:‏ «لَمّا أُسْرِيَ بي كَانَ أوَّلَ مَا أمَرَني بهِ رَبِّي أنْ قال‏:‏ إيّاكَ وَعِبَادَةَ الأوْثَانِ، وَشُرْبَ الخَمْرِ، وَمُلاحَاة الرِّجَالِ» وفي حديث آخر‏:‏ «احْذَرُوا جِدَالَ كُلَّ مَفْتُونٍ، فَإنَّهُ يُلَقَّنُ حُجَّتَهُ إلى انْقِطَاعِ مُدَّتِهِ» وقال الشاعر‏:‏

إني محضتك يا كدام نصيحتي *** فاسمع لقول أب عليك شفيق

أما المزاحة والمراء فدعهما *** خلقان لا أرضاهما لصديق

وقال الآخر‏:‏

اترك مكاشفة الصديق إذا *** غطى على هفواته ستر

وهذا باب واسع مشهور، وفيما ذكرنا منه كفاية‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

استقراء المؤلف لهجة ريفية من جملة ما اتفق لي في هذه السفرة إلى جبال الزبيب وسفرات أخرى لزيارة الشيخ عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه أني سمعت لغة لأهل تلك الجبال‏:‏ يكسرون آخر الموقوف عليا استقراء فتتبعتها فوجدتها لها ضابط، وقد رأيت غيرهم من أهل الآفاق يسمعون عنهم ذلك فيحكونه على غير وجه وينسبون إليهم ما لا يقولون جهلًا منهم بضوابطها، فإنهم لا يكسرون إلاّ الفتحة بعدها ألف، أما الألف المقصورة كالدنيا، أو الممدودة كالسماء والطلباء والشرفاء، والأصلية كالماء، أو المقلوبة عن هاء التأنيث في مجرى العرف كالبقرة والشجرة والصفحة فإن العوام من غيرهم يقولون في الوقف على هذه‏:‏ البقرا والشجرا بألف، وهؤلاء يكسرون فيقولون‏:‏ البقري والشجري وتنقلب الألف ياء، وهذا كله في الوقف فإن وصلوا نطقوا بالألف كغيرهم، وإن لم يكن الفتح ولا الألف كالشجر والبقر مرادًا به الجنس وقفوا بالسكون كغيرهم، وأني لما تأملت ذلك من كلامهم وحققته في أقرب مدة اتضح عندي معنى الاستقراء في نحو هذا بالمشاهدة، وعلمت كيف كان أئمة العربية القدماء يستقرئون النحو واللغة من أفواه العرب ويضبطون لغة كل قبيلة في ذلك، وتبين أن ذلك أمر صحيح بيّن، وللتنبيه على هذا حكيت هذه القصة، فلا يقل جاهل‏:‏ ما لنا ولهذه اللغة‏؟‏ فلتعرف أو لا تعرف، هذا مع أن معرفة الشيء خير من جهله، فالجاهل بالشيء أعمى فيه وفي ظلمة عنه، والعالم به بصير به وفي نور فيه، ‏{‏وَهَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالبَصِيرُ أمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ‏}‏ والعلم ذخر يجده صاحبه عاجلًا أو آجلًا، وحجة ينتصر بها في الخطوب أيضًا‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

مناظرة المؤلف لشيخه المرابط الدلائي

ومما اتفق لي في هذا أني كنت قدمت في أعوام الستين وألف من رحلتي في طلب العلم، وكنت إذ ذاك شابًا، فدخلت الزاوية البكرية، فوجدت شيخنا أبا عبد الله محمد بن محمد المرابط -رحمه الله- قد جمع خطبًا وعظية وتقدم إلى أهل الوقت في بلده ليكتبوا عليها تقريظًا، فكتب كل ما قدر له من نثر ونظم، فلما رأيت ذلك كتبت أنا أيضًا فوقع في مكتوبي لفظة القطائف ‏"‏اللطائف‏"‏ فاعترض علي ورام تبكيتي وقال‏:‏ إنا لا نعرف القطائف إلاّ هذه المفروشات، فقلت له إن القطائف هنا جمع قطيفة بمعنى مقطوفة، فقال‏:‏ هو صحيح في اللغة ولكن الأدباء لهم الاختيار وعندهم ألفاظ يستعملونها مخصوصة، فلا يرتكب عنده كل ما يقع في اللغة، فقلت له حينئذ‏:‏ هذا أبو محمد الحريري يقول في ‏"‏مقاماته‏"‏‏:‏

***

فلا تعذلوني بعدما قد شرحته *** على أن منعتم في اقتطاف القطائف

على أن ما زودتم من فكاهة *** ألذ من الحلوى لدى كل عارف

فتلون وجهه -رحمه الله- وخجل ولم يرَاجعني بكلمة، فلولا معرفة المقامات واستحضار هذا البيت لأخجلني عوض ما كنت أخجلته، والشيء يذكر بالشيء‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

تنقل المؤلف في طلب العلم بالجنوب

كنت أيام طلب العلم في بلاد القبلة ‏"‏حتى‏"‏ أخذت بطرف من العربية، فحدث لي انتقال على ناحية مراكش، وذلك في دولة السلطان محمد الشيخ، فأخذت في فنون أخرى كالأصول والمنطق والكلام، وتركت العربية، ثم إني دخلت السوس الأقصى واتصلت بشيخنا أبي فارس عبد العزيز أحمد الرسموكي رحمه الله، فوجدت أهل تلك البلاد يشتغلون بتصريف الأفعال ويستحضرون معها النصوص من الخلاصة ونحوها، فحضرت معهم فإذا أبيات الخلاصة تشذ عن فكري لطول العهد بها، فلما رأيت ذلك أحببت أن أحدث عهدًا بها فقلت للطلبة‏:‏ من أحب أن يسمع الخلاصة فليأتني، فشرعنا فيها، وكنا نجلس إليها بعد العشاء الآخرة بساعة ‏"‏أو أكثر‏"‏ فنقطع الليل كله في المجلس، وأنقل كل ما في شرح المرادي بأكمل التقرير والتحرير، وختمناه في نحو شهر وعشر ليال، وفي الليلة التي ختمناها نمت فرأيت فيما يرى النائم العذرة تخرج من جوفي على فمي كحالة القيء متصلة حتى انفصلت عني فلما انتبهت وقع في فكري أن ذلك هو الجهل بذلك الكتاب أو ذلك العلم خرج عني، فسرني ذلك، وفهمت من تصوير ذلك بصورة النجاسة أن الجهل قبيح وأن العلم كله حسن محتاج ‏"‏إليه‏"‏، فإنه إما مقصود لذاته فيما تعبد به العبد، وإما معين على ذلك نوع إعانة، فمتى صلحت النية كان الجميع قربة وعبادة، ولقد حدثونا عن بعض الفقهاء ممن كان يواصل أشياخنا رحم الله الجميع وكان يدرس للطلبة الكتب المتداولة في الفقه والنحو والكلام وغير ذك من الفنون أنه توفي وأنه ريء بعد موته وسئل عما فعل الله به فأخبر أنه أثيب على كل كتاب من تلك الكتب بحمد الله، وذلك لصلاح نيته‏.‏

وقد كنت دخلت يومًا على أستاذنا الإمام أبي عبد الله بن ناصر -رضي الله عنه- وكان يوم جمعة فوجدته في روضة الأشياخ، وإذا هو يقرىء لأولاده ‏"‏ديوان الشعراء الستة‏"‏ ويطرر على النسخة ما يحتاج من شرح الغريب ونحو ذلك، فقلت في نفسي‏:‏ هذا يوم الجمعة يعتني فيه بالإقبال على العباد لشفوف فضله، وهذه الروضة موضع ذكر واعتبار، والشيخ -رضي الله عنه- أعرف، عنده النهاية في كل ذلك، فعلمت أن ذلك إنما كان لصلاح النية وصحة الإخلاص وذهاب الهوى، فكان كل ذلك عبادة أيًا كان وفي أي موضع كان، ولهذا يقول أئمة الدين‏:‏ إن علامة من يأخذ في العلم لله تعالى أن ‏"‏لو‏"‏ قيل له غدًا تموت لم يطرح الكتاب من يده أي لكونه دخله بوجه صحيح، ولو كان أخذه فيه بالهوى لفر عند الإحساس بالموت عنه إلى الصحيح، وهكذا في جميع التصرفات‏.‏

ولهذا كان بعض مشايخ الصوفية من ناحية العراق أخذ يبذر أرضًا فمر به بعض الأولياء طائرًا في الهواء، وذلك في عشية ليلة عرفة فقال له الأول‏:‏ إلى أين تريد‏؟‏ فقال‏:‏ إلى الحج، فهل لك فيه‏؟‏ فقال‏:‏ إني نويت أن أحرث هذه الأرض، وامتنع من الذهاب إلى الحج، وذلك لأنه دخل في هذا العمل بنية صحيحة فلم يكن ليتركه، وفي الحديث الصحيح‏:‏ «إنّمَا الأعْمَالُ بالنّيّاتِ»‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُبْطِلُوا أعْمَالَكُمْ‏}‏ وفي الحديث الآخر‏:‏ «يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ وَفِيِهمْ أسْوَاقُهُمْ ثُمَّ يُخَفُ بِهِمْ وَيُبْعَثُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلى نِيّاتِهِمْ»‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

تأخير الصلاة

حدثني الأخ الفاضل أبو الحسن علي بن أحمد الرماني قال‏:‏ كان سيدي محمد الشرقي التادلاوي يومًا مع جماعة من إخوانه فحان وقت الصلاة فجاء المؤذن يؤذنه بالصلاة فتغافل عنه، ثم رجع إليه ثانيًا وثالثًا، فلما ضاق الأمر بالمؤذن شرع في إقامة الصلاة من غير إذن، فقال له الشيخ‏:‏ ما أعجلك‏؟‏ إن الصلاة تقضى أو تدرك، ومجلس الأخوان لا يقضى‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يذهب به العوام ويرتكبون ظاهره، وتأخير الصلاة عن وقتها لا يجوز لشيء من الأشغال أو الفضائل إلاّ العجز، وما لا يجوز لا يفعله الولي اللهم إلاّ مغلوبًا بوارد، ولا يقتدي به في تلك الحالة مع أن الموفق محفوظ، أما التأخير عن أول الوقت مثلًا فقد يكون لأمر مهم أو فضيلة تربو، ومحل العذر أو الترخص في السفر أو نحوه معلوم‏.‏

وحدثونا عن سيدي عبد الله بن ‏"‏عمرو‏"‏ المضغري أنه أرتحل إلى مليانة لقصد ملاقاة الشيخ أبي العباس سيدي أحمد بن يوسف الراشدي والأخذ عنه، فوافى البلد وقت صلاة العصر، وقد كان صلى، فلما انتهى إلى زاوية الشيخ سأل عنه فقيل له‏:‏ إنه لم يصل العصر ‏"‏بعد‏"‏ فأنكر ذلك وقال‏:‏ إن هذا الرجل لم يحافظ على أول الوقت، وانصرف عنه، وذهب إلى سيدي عبد العزيز القسمطيني فأخذ عنه -نفع الله بالجميع-‏.‏

وقد صار ذلك التأخير الذي وقع للشيخ سببًا لانصراف الآخر عنه حيث لم يسبق القدر بأن يكون من أصحابه وإلاّ فللناس أعذار‏.‏

ومن الملح في تأخير الصلاة أن الفقيه أبا عبد الله محمد بن سودة قاضي مدينة فاس -رحمه الله- كان يؤم بجامع القرويين وكان يؤخر صلاة الصبح تأخيرًا مفرطًا، فحدثني بعض الأصحاب قال‏:‏ لقيت صبيًا من أهل فاس ‏"‏إذ ذاك‏"‏ فسألته عن صلاة الصبح في القرويين هل أدركها‏؟‏ فقال لي‏:‏ والله لا تمشي إليها إلاّ بالمظلة، يعني التي تجعل على الرأس اتقاء الشمس، وهذا إفراط في المبالغة‏.‏

ومما اتفق في هذا الإنكار ولكن في العكس، وهو التقديم ومزاحمة الوقت، حدثونا عن الفقيه الصالح أبي عبد الله سيدي محمد بن سعيد الميرغتي أنه ورد على شيخنا وأستاذنا ومفيدنا الإمام أبي عبد الله سيدي محمد بن ناصر الدرعي -رحم الله الجميع ونفعنا بهم- فكان المؤذن إذا أذن ‏"‏المغرب‏"‏ ينكر عليه ويقول له استعجلت‏:‏ فلما أكثر في ذلك وانتهى الأمر إلى الشيخ خرج إليه فسار معه إلى صومعة الجامع الكبير وذلك في عشي النهار، فجلسا بأعلى الصومعة يتحدثان والمؤذن الذي كان ينكر عليه في مسجد الخلوة بعيدًا عنهما بنحو مد البصر، وبقيا في حديثهما حتى غربت الشمس وأقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقال الشيخ للفقيه المذكور‏:‏ أقد تبين الوقت‏؟‏ قال نعم، وبفور كلامه قال مؤذن الخلوة‏:‏ الله أكبر، وجعل يؤذن فعجب الفقيه من هذا الاتفاق الغريب، وعلم أن الأذان كل يوم كان على الصحة، فلم يعد إلى الإنكار‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

أبو بكر الدلائي يكرم العكاكزة مداراة لهم

حدثني الأستاذ المقرئ الفاضل أبو عبد الله الشرقي بن أبي بكر عن والده سيدي أي بكر أنه كان ذات مرة هربت العكاكزة أولاد عبد الحق بن المنزول من بلادهم فنزلوا بساحته وهم جياع، ووجدوا زرع زاويته محصودًا مجموعًا فقال لهم‏:‏ ادرسوا وكلوا، فقام إليه ولده الكبير أبو عبد الله محمد ابن أبي بكر فأنكر ذلك وقال‏:‏ إن هؤلاء فساق أو كفار، ثم هم ظلام محاربون فكيف تعينهم وتبيح لهم زرع المساكين‏؟‏ فقال أبوه‏:‏ إني أريد أن أتخذ عندهم يدًا فإذا استلبوا مسكينًا يومًا ‏"‏ما‏"‏ وجاء إليّ يشتكي كتبت إليهم كتابًا فلا بد أن يراعوا هذا الخبر فيردون عليه متاعَهُ فأنا إنما فعلت هذا لحق المساكين‏.‏

قلت ولعل هذا هو نظر ولده المذكور في المسعود بن عبد الحق، فإنه كان يدنيه حتى إنه كثيرًا ما يكون أول داخل عليه وآخر خارج حتى إن الفقيه النحوي الحافظ أبا عبد الله محمد بن أبي بكر الإسحاقي الجراني وكان ابن أبي بكر يجفوه كان يقول‏:‏

وإنما دنياك بالسعود *** وإن شككت انظر إلى مسعود

وحدثونا عن مسعود هذا أنه ‏"‏كان‏"‏ يحضر مع الناس مجلس البخاري فاحتالوا عليه يوما حتى أوقعوا نقطة مداد على رجله، فلما رجع من الغد لحظوها فإذا هي بحالها فعلموا أنه لم يكن يصلي، أو يصلي بغير طهارة، وهذا الذي فعله المرابط المذكور داخل في باب الرفق والمداراة‏.‏

ونحو منه ما حكى المواق في سنن المهتدين عن شيخه ابن سراج عن الشيخ الزيات ببلش وكانت بيد بعض الرؤساء من الملوك النصريين وكان هذا الرئيس يأتي حلقة الشيخ المذكور فيتزحزح له الشيخ ويرحب به فكان بعض الطلبة يجد في نفسه من ذلك فبينا ذلك الطالب يجيء من قريته بشِقصِ حرير في يده أخذه له شرط فجاء إلى الشيخ وشكا له، فأمر الشيخ مؤذنًا أتى الرئيس، فما كان أسرع ‏"‏أن‏"‏ أتى الرئيس على الرئيس على عادته، وتزحزح له الشيخ وجلس، ثم بعد الفراغ من المجلس وأراد القيام قال الشيخ‏:‏ أنت أرسلت في هذا‏؟‏ وأخرج الحرير فقال‏:‏ نعم، هو لهذا الطالب ‏"‏فقال الرئيس للطالب‏:‏ خذ يا حبيبي متاعك وانصرف فقام الشيخ‏"‏ وقال لذلك الطالب‏:‏ يا زبلح لمثل هذا ‏"‏هو‏"‏ ذلك التزحزح‏.‏

وحدث عن إمامنا مالك رضي الله عنه ‏"‏أنه‏"‏ قيل له‏:‏ تترك الجماعة والجمعة وإذا دعاك السلطان أسرعت إليه فقال‏:‏ لو لم أفعل هذا لم تر بهذه البلدة سنة قائمة‏.‏

ومن هذا القبيل ما كان فعل الإمام العلاّمة القاضي إسماعيل بن حماد، فقد روي أنه دخل عليه عبدون صاعد الوزير، وكان نصرانيًا، فقام له ورحب به ورأى ممن حضر من العدول وغيرهم إنكارًا لذلك فلما خرج قال لهم‏:‏ قد رأيت إنكاركم، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أنْ تَبَرُّوهُم‏}‏‏.‏ وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين المعتضد، وهذا من البر، فسكت الجماعة، وهذا كله داخل في أبواب سد الذرائع وفتحها‏.‏

واعلم أن الذريعة هي المدخل إلى الشيء، فإن كان الشيء خيرًا فحقها أن تفتح، وإن كان شرًا فحقها أن تسد، وتقرير هذا المعنى أن المراد السبب المفضي إلى السبب إفضاء عاديًا أو إفضاء عاديًا كليًا أو أكثريًا أو حاليًا بحيث إن من سعى في استحصال الأول هو ساع في استحصال الثاني بالتبع، ثم الإفضاء إما أن يكون ذهنيًا فقط، كما في الفرضيات، أو خارجيًا فقط، كما في الاتفاقيات، أو ذهنيًا خارجيًا، وهو الأكثر، ومتى اعتبر مجرد الربط ولو جزئيًا فالذهنيّ أعم مطلقًا، ثم الطرفان قد يكونان جائزين نحو‏:‏ لو جاءني زيد أكرمته، وقد يكونان واجبين نحو‏:‏ لو كان الله تعالى عالمًا كان حيًا أي لكنه عالم فهو حي، وقد يكونان مستحيلين عقلًا نحو‏:‏ لو وجد شريك لله تعالى لمانَعه على الفعل، وهذان المثالان معًا من قسم ما هو ذهني فقط، لأنه لا تصح السببية الخارجية في شيء من الواجب ولا المستحيل، وقد يكونان مستحيلين عادة نحو‏:‏ لو وجدت في الأرض جبال من ذهب لاستغنى الناس كلهم في الدنيا، ولو طار زيد إلى السماء لرأى معمور الأرض كله في مرة، ثم الجائزان عقلًا قد يكونان مطلوبين معًا شرعًا، إما وجوبًا أو ندبًا، كفعل الطواف وفعل السعي بعده، وتلاوة القرآن وسجود التلاوة معه، ونحو ذلك، ولا إشكال فيه، وقد يكون الثاني هو المطلوب بالذات، فيستتبع الأول كقتل النفس قصاصًا، فيستتبع ما تزهق به الروح من حز الرقبة ونحوه، وذبح الضحية فيستتبع ما تحصل به الذكاة شرعًا من قطع الحلقوم والأوداج، ويعرف هذا القسم في أصول الفقه بالمقدمة، وعندهم فيه اختلاف مشهور، هنالك، وقد ينعكس ‏"‏الأمر‏"‏ فيكون المطلوب شرعًا هو الأول فقط كصلة الرحم المفضية بإذن الله إلى سعة الرزق والبركة في العمر على ما ورد به الوعد الصادق، وكالإسلام المفضي إلى سلامة الدماء والأموال، وكالإخلاص فيه المفضي إلى نور الوجه وانبساط الروح، وهذا القسم داخل فيه العبادات كلها بحسب ما تفضي إليه من الثواب عليها، غير أن ما كان من هذه الثمار دنيويًا كالذي صدرنا به فيجب ألاّ يقصد عند عمل العبادة، وإلاّ فات الإخلاص، وما كان أخرويًا فلا بأس أن يقصد في مقام الإسلام، وقد يكونان منهيين معًا كتزوج الخامسة ووطئها وشراء الخمر وشربها، فيتركان معًا، وقد يكون الأولى مباحًا بذاته شرعيًا، والثاني حرامًا، فيحرم الأول تبعًا إذا اعتبر الإفضاء كبيع السيف من قاطع الطريق مع العلم به وكبناء الدار لتكون ماخورًا أو معصرة خمر، وغير ذلك مما يكثر، وهو داخل في سد الذرائع المتفق عليه، فإن لم يكن الإفضاء معتبرًا، وذلك عند كون الأول مهمًا في نفسه، والثاني غير مقصود لم يمنع، كغرس الأعناب في الدنيا مع أنه يؤدي إلى عصر الخمر وشربها، وكالخروج في ضروريات العيش ودخول الأسواق مع أنه قد يؤدي إلى رؤية أجنبية أو وقوع في خصام أو قتال أو معاملة ممنوعة، فهذا ونحوه من الذرائع التي لا يراعى سدها عند أحد، وقد يتعين شيء من ذلك جزئيًا فيجب أن يعطى حكمًا جزئيًا، وقد يكون الأول حرامًا ويكون الثاني مباحًا في ذاته فيحرم أيضًا إذا اعتبر الإفضاء كما حرم أصله‏.‏ وذلك كمزاناة الرجل المرأة على أن تسكنه دارها أو تتفق عليه، وكذا العكس إلاّ ما أباحته الضرورة، ويكفي في هذا القسم ترك الأول امتثالًا فيبطل الثاني وقد يكون الأول خلاف الأولى، فإن أفضى فعله إلى مصلحة يضمحل فساده في جنبها أو تركه إلى مفسدة يكون التحرز عنها أهم ارتكب لأجل ذلك لا لذاته، ومن الأول ما صدرنا به هذه الترجمة من فعل القاضي إسماعيل مع النصراني، وكذا فعل المرابط المذكور، وهذا في المعنى ‏"‏فيه‏"‏ جلب مصلحة ودرء مفسدة هي الشحناء والبغض وما ينشأ عنه، ففيه فتح الذريعة من وجه، ‏"‏وسدّها من وجه‏"‏، ومن الثاني مسألة الشيخ عز الدين حيث ترخص في القيام لأهل المناصب جبرًا لقلوبهم، وتوقيًا من الشحناء والتدابر والتقاطع المنهي عنه، وفيه الاعتباران أيضًا، فالباب الواحد، وقد يكون الأول مطلوبًا وجوبًا أو ندبًا في ذاته، ولكنه يفضي إلى مفسدة ينهى عن ارتكابها فيترك، وذلك كالخروج لطلب الماء للطهارة المفضي إلى تلف النفس بالسباع، أو المال بالسرقة ونحو ذلك مما لا يأتي عليه الحصر، وتوجيهه أن درء المفسدة أهم من جلب المصلحة، أو الحكم الأول أعني الوجوب أو الندب مقيد بالشرط في أصله، فإذا انتفى انتفى،

***

والثاني يبحث فيه بأنه أي موجب لهذا التقيد فلا بد أن يرجع الأول إلى الوجه الأول وهو أمر مجمل يتداوله الناس ‏"‏أبدًا‏"‏ فلا بد من البحث عن وجهه وأنه كيف كان درء المفسدة أهم، وفي تحريره طول، ويكفينا فهمه في المثال المذكور فنقول‏:‏ لو خرج للماء ليحافظ على الطهارة المائية فافترسه الأسد ضاعت حياته وذهبت الصلاة، والطهارة مائية وتُرابية فعبادة الله التي يريد أن يجودها أتلفها رأسًا فكان الاكتفاء بطرف وهو التراب واتقاء المفسدة أولى من جلب المصلحة المؤدي إلى ضياع الكل وهكذا في سائر الأنواع‏.‏

ولعلك تخرج بهذا التقرير عما يهجس في نفوس الجهلة عند سماع تلك الأحكام من توهم أن النفوس والأموال والأعراض ونحوها مقصودة بالأثرة على دين الله تعالة، كلاّ، وإنما ذلك ‏"‏كله‏"‏ محافظة على دين الله تعالى، فإنه لا بقاء له مع هلاكها، فافهم‏.‏

وينخرط في هذا القسم ما منع من سَبّ الكفار كفاحًا حذارًا من أن يسبّوا الله تعالى ودينه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ والتقاسيم لا تنحصر فيما قررنا، ولكن فيما ذكرنا تنبيه على ما ورائه‏.‏

واعلم أن كل ما تقرر فيها باعتبار الحكم الشرعي محافظة على التقوى يتقرّر نحوه باعتبار المحاسن العادية محافظة على المروءة، وذلك ملتحق بالدين أيضًا ولا حاجة إلى تتبع التفاصيل، والله الموفق‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏